د.عبد الفتاح العويسي
عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ﷺمن النصرةِ، بل ربما من أعظمِ صور وجبهاتِ النصرةِ، للحبيب محمد ﷺ في زماننا الحالي، ما تناستْه/أغفلتْه أمةُ المليار ونصف المليار مسلم، والمتمثل في العمل الاستراتيجي الجاد والممنهج، على جميعِ المستوياتِ والثّغور لتحرير مسراه ومعراجِه "مركز البركة" المسجد الأقصى المبارك.
أليس من الإساءاتِ المغلَّظِة لمقامِه الشريف ﷺ أن يُتركَ مسراهُ ومعراجهُ طوال أكثر من نصف قرنٍ أسيراً في يد الصهاينةِ المحتلين، الذين يقتحمون الأقصى يومياً، ويُدَنِّسوه ويعتدون عليه، ويَشتُمون مقامَه العالي ﷺ بداخله، وفي المدينةِ المقدسةِ المباركة، تحت سمْعِ وبَصَرِ الأمة المسلمة، التي تعايشت بكل أسفٍ مع هذا الواقع الأليم، وأقصى ما تقوم به، هو تَطفِأةَ الحرائقِ التي يُشعلها العدو، وتدور في فلكِ ردودِ فعلٍ وقتيةٍ وموسميةٍ، ثم تعود إلى نومِها وسباتِها الطويل! فهل يُعقل أن أمتَنا – بعد مرور أكثر من مائةِ عامٍ على احتلال هذه الأرض المقدسة المباركة منذ الاحتلال البريطاني في 1917 –، لا يوجد لديها خطةٌ استراتيجةٌ للتحريرِ القادم؟!
أين علماءُ الأمة من القيام بعملٍ بِنائيٍّ إبداعيٍ وخلاقٍ، للإسهام المعرفي في التحرير القادم، وصناعةِ تاريخنا المستقبلي، نصرةً لصاحبِ المسرى ﷺ، ونصرةً للمسرى وقضيتِه، من خلال إعطاء أولويةٍ قصوى، لصناعةِ الفعل وصناعة الأمل، بدلاً من الوقوع في شَرَكِ الأسر للطرف الآخر، ودوَّامةِ رِدِّة الفعل التي تُشَتِتُ الجهود، وتُضَيِّعُ الوقتَ والإمكانياتِ، وتتيح للطرف الآخر التخطيط الإستراتيجي، لتحقيق أهدافه.
فالأمةُ المسلمةُ في زماننا الذي نَعِيشه، وهي تسعى لتحريرِ الأرض المقدسة - بيت المقدس - ومسجدِها الأقصى المبارك، نصرةً لصاحب المسرى ﷺ، ونصرةً للمسرى وقضيتِه، بحاجةٍ ماسةٍ إلى العلمِ النافع، والمعرفةِ النافعةِ، لننتقلَ من التفكيرِ الاستراتيجيّ، إلى التخطيطِ الاستراتيجي، وبالتالي، في زماننا، نحن بحاجةٍ ماسةٍ إلى أن يتقدم العلماءُ لرسمِ خارطةِ طريقٍ معرفية، وبناءِ خطةٍ استراتيجيةٍ للتحرير القادم، تُبنى على العلم النافعِ الذي يدفعُ الإنسان للعمل، والمعرفةِ النافعةِ التي تدفع للتغيير، وهنا يجب التنبيه إلى أن العلم ليس من أجلِ العلم، بل العلم الذي يوصل للفهم - المرتبة الثالثة - والذي يُؤدي للعمل "العلم إمام العمل"، والمعرفةُ: ليس أن تعرف، بل المعرفة التي توصلك إلى الإدراكِ - المرتبة الخامسة - والتي تؤدي للتغيير.
كما أن الدراسة المعمقة لآيات القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة، وحركة التاريخ، توضح للأمة المسلمة أن المعرفة – بمعنى الإدراك – هي البداية والنهاية، والقاعدة الأساسية لمثلث أو هرم التغيير والتحرير والعمران. وأن الإعداد المعرفي يمثل الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه جميع الإعدادات الأخرى. فالفتح المعرفي يجب أن يسبق الفتح والتحرير السياسي والعسكري.
وفي هذا المقام، أودُّ أن أتوقفَ عند خارطة الطريق المعرفية، في صدر سورة الإسراء، التي ترسم للأمة المسلمة ثلاثَ خُطُواتٍ/مراحل مستقبليةٍ مهمة:
﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرً﴾ [الإسراء: 7]
ففي خضم معاناتهم الشديدة في مكة المكرمة بدايةً، ثم وهم يبنون الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة، ربط رسول الله ﷺ الصحابة رضوان الله عليهم ببيت المقدس بروابط عديدة – قبل وبعد حادثة الإسراء والمعراج - ووجّه العاطفة والمشاعر والعواطف التي برزت نحو بيت المقدس، فأسّس لمفهومٍ ومصطلحٍ نبويٍ جديد "بيت المقدس"، وزرع الأمل، وأعطى البشائر- باستمرار وتشويق - بحتمية فتح بيت المقدس، ورسم صورةً جديدة له أوضحت أنه هدف استراتيجي مركزي نحو العالمية.
وبالإضافة إلى ما تعلمناه من رسول الله ﷺ في الفتح الأول، فإن دراسةَ حركةِ التاريخ تُعلمنا الدورَ المحوريَّ الذي لعبه العلماء في الإعداد المعرفي في التحرير الثاني لبيت المقدس، حيث نلاحظ أن الخطتين السابقتين لتحرير الأرض المقدسة من الاحتلالين: البيزنطي والصليبي، قد تضمنتا بالإضافة إلى الإعداد السياسي والإعداد العسكري، الإعدادَ المعرفيّ، بل وجدنا أنَّ الإعدادَ السياسيَّ والعسكريَّ قد بُنيا على الإعداد المعرفي، هذا يعني أن على الأمة أن تتعلمَ من الخطتين السابقتين، سيما الخطوة الأولى والأساسية والأولوية المنسية في زماننا التي تتمثل في تحرير العقول والإعداد المعرفي. فلا يمكن لأمة أن تحرر أرضها، وعقولُ أبنائها وبناتها محتلةٌ ومستعمرة من القوة التي تحتل أرضها وتسرق خيراتها، وهذه مهمة علماء الأمة.
وهو ما حدث في زمن حروب الفرنجة (الصليبيين) عندما بدأ الإعداد بالعلماء وعماد الدين، مروراً بنور الدين، وتُوج بالتحرير الثاني زمن الناصر صلاح الدين الأيوبي، الذي قال مخاطباً جنوده يوم جمعة التحرير (27 رجب 583، 2-10-1187م): "لا تظنوا أني فتحت البلاد بسيوفكم، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل". وفي هذه العبارة يشير الناصر صلاح الدين إلى عبدالرحيم البيساني - الذي كانت شهرته "القاضي الفاضل" - الرجل الثاني في الدولة بعد الناصر صلاح الدين الأيوبي. وهذا يكشف بوضوح التحالف الوثيق بين: المعرفة الممثلة بقلم القاضي الفاضل - الذي لُقب بمحي الدين - والسلطة الممثلة بالقائد السياسي والعسكري صلاح الدين الأيوبي - الذي لُقب بالناصر.
وفي الإعداد للعالمية الثانية القادمة، وأستاذية العالم من بيت المقدس، لابد من نقلةٍ نوعيةٍ تقوم على التفكير والتخطيط الاستراتيجيَين، ووضعِ خطةٍ استراتيجيةٍ، ورسمِ خارطتها السياسية والجيوبولتيكية، تتضمن الإعدادَ بجميع مستوياته المعرفية والسياسية والعسكرية، والذي يبدأُ بربطِ أرواح مسلمي العالم وقلوبهم وعقولهم ببيت المقدس، وبيته المقدس -المسجد الأقصى- من خلال الإعداد المعرفي.
فهل تَفيقُ أمةُ المليار ونصف المليار مسلم إلى النصرة الحقيقية، لجنابه الشريف ﷺ، وتنصُر وتنتصِرُ بصدقٍ لمسرى الحبيب محمد ﷺ ومعراجه، بالعمل الاستراتيجي الجاد والممنهج لتحريره، وتدركُ أنه لا عزة للمسلمين بدون تحرير وعمران بيت المقدس، ومسجده الأقصى المبارك، فهو المقياسُ الحقيقيُّ لعزهم أو ذلهم، وهو المرآة التي تعكس أوضاع المسلمين، وله تأثيرٌ على بقية العالم في الماضي والحاضر والمستقبل، فدراسةُ حركةِ التاريخ، وعلم الجيوبولتكس يعلمنا أن من يحكم بيت المقدس يسيطر على العالم، فَمِنَ الأرض المقدسة المباركة -بيت المقدس- سينطلق الانبعاث الإسلامي العالمي الثاني، والفتوحات الإسلامية العالمية الثانية، وتشرقُ شمسُ الإسلام والرحمة للعالمين، على العالم مرة أخرى، ونصلُ هذه المرة إلى أستاذية العالم من الأرض المقدسة -بيت المقدس-.
x
تعليقات
إرسال تعليق